مفهوم القداسة من منظور الكتاب المقدس

مفهوم القداسة من منظور الكتاب المقدس القداسة: انعكاس لطبيعة الله في الإنسان الجديد القداسة ليست فكرة أخلاقية بشرية، ولا نظامًا سلوكيًا اجتماعيًا، بل هي استجابة وجو…

 مفهوم القداسة من منظور الكتاب المقدس
المؤلف mzgeni
تاريخ النشر
آخر تحديث


 مفهوم القداسة من منظور الكتاب المقدس

القداسة: انعكاس لطبيعة الله في الإنسان الجديد

القداسة ليست فكرة أخلاقية بشرية، ولا نظامًا سلوكيًا اجتماعيًا، بل هي استجابة وجودية لدعوة إلهية نابعة من طبيعة الله ذاته. فالله في جوهره "قدوس" (إشعياء 6: 3؛ رؤيا 4: 8)، وكل من يتعامل مع هذا الإله مدعوّ للدخول إلى دائرة قداسته. من هنا، فالقداسة ليست هدفًا فرعيًا في الحياة المسيحية، بل هي الغاية التي من أجلها خُلق الإنسان، وفُدي، ودُعي ليكون "شريكًا في الطبيعة الإلهية" (2 بطرس 1: 4).

أولًا: القداسة كفصل وتكريس

في الكتاب المقدس، تُستخدم كلمة "قداسة" (بالعبرية: קֹדֶשׁ – قُدِش؛ باليونانية: ἁγιασμός – هاجياسموس) للدلالة على الانفصال عن كل ما هو دنيوي أو نجس، والتكريس الكامل لله. هذا المفهوم لا يقتصر على ترك الخطية فحسب، بل يشمل:

انفصالًا عن النجاسة والخطية والباطل (إشعياء 52: 11)،

وتكريسًا لله واختصاصًا له، تمامًا كما كانت آنية الهيكل مفرزة للاستخدام الإلهي فقط (خروج 40: 9-10).

هذا التكريس ليس طقسيًا فقط، بل روحي ووجودي. فالإنسان المقدّس هو ذاك الذي أفرز نفسه بالكامل لسيادة الله، وخضع لسلطان الروح القدس في كل جوانب حياته.

ثانيًا: القداسة كحياة داخلية وظاهرة

القداسة تبدأ في القلب، مركز الإرادة والمحبّة، ولا تُختزل في مظاهر خارجية أو تقشّف سلوكي. الرب يسوع رفض مظهرية الفريسيين الذين حافظوا على الطقوس بينما قلوبهم بعيدة (متى 23: 27-28)، مؤكدًا أن "القداسة الحقيقية تنبع من الداخل وتفيض إلى الخارج".

يقول بولس:

"نطلب منكم... أن تزدادوا أكثر في التقدّس... لأن هذه هي إرادة الله: قداستكم" (1 تسالونيكي 4: 1-3).

هذا النص يربط بين الإرادة الإلهية وسلوك المؤمن، موضحًا أن القداسة ليست فقط دعوة، بل مشيئة إلهية دائمة.

ثالثًا: القداسة ليست منّا، بل من عمل الروح

من منظور لاهوت النعمة، الإنسان الساقط لا يستطيع أن يقدّس نفسه بذاته. ولهذا، فالتقديس هو عمل إلهي يبدأ في الولادة الجديدة ويتواصل بنعمة مستمرة بفعل الروح القدس.

يقول بولس:

"ولكن اغتسلتم، بل تقدستم، بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1 كورنثوس 6: 11).

إذًا، القداسة ليست مجرّد التزام سلوكي أو محاولة بشرية أخلاقية، بل هي ثمرة التغيير الداخلي الذي ينتجه الروح القدس في المؤمن، فيحرّره من سلطان الخطية ويمنحه طبيعة جديدة تطوق إلى الله.

رابعًا: القداسة كعلامة الانتماء لله

القداسة ليست ترفًا روحيًا بل ضرورة وجودية. يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين:

"اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة، التي بدونها لن يرى أحد الرب" (عبرانيين 12: 14).

هذا الإعلان الخطير يُظهِر أن القداسة هي علامة الهوية الروحية، والدليل الحاسم على صحة العلاقة بالله. فكل من هو مولود من الله، ينبغي أن يظهر في حياته ثمر القداسة، لأنها الدليل على حياة جديدة وليست مجرد خيار روحي إضافي.

خامسًا: القداسة غاية الخلاص وليست فقط نتيجة له

في اللاهوت الرسولي، لا يُفصل التبرير عن التقديس، بل هما وجهان لعملة واحدة. التبرير يُغيّر الوضع القضائي أمام الله، أما التقديس فيُغيّر الكيان الداخلي للإنسان. والاثنان يعملان معًا نحو غاية واحدة: أن يُعيد الله الإنسان إلى صورته الأولى، أي أن "نكون مشابهين صورة ابنه" (رومية 8: 29).

لهذا كتب بولس: "كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" (أفسس 1: 4).

فالخلاص ليس مجرد إنقاذ من الدينونة، بل هو دعوة إلى حياة مطابقة لقداسة الله.

القداسة هي مركز الحياة المسيحية، ومضمون العلاقة مع الله، وغاية عمل النعمة فينا. إنها ليست سلوكًا فارغًا، ولا انعزالًا عن العالم، بل اتحاد حقيقي بالقدوس، وسير مستمر في نور وجهه. فكل من يدعو اسم الرب، مدعو أن "يتقدّس كما هو قدوس"، لأن هذا هو البرهان الأسمى على أن روح الله قد حلّ وسكن وغيّر. إنها حياة تُعاش، لا تعليم يُردّد.


تعليقات

عدد التعليقات : 0